في جغرافية متوضّعةٍ على شاطئ المتوسّط. يجلس أحمد في العراء، ويسرّح نظره في امتداد البحر. لم يشعر يوماً بانجذابٍ إليه. لكنّه الآن يحلم بمركبٍ يحمله إلى عوالمَ آمنةٍ. فقد دفع سنين شبابه الأوّل، في عتمة الزنازين، وعندما خرج إلى الضوء، دمّرت الحرب أحلامه وما يملك من متاع الدنيا.
فقدَ طاقته في احتمال انكسارات روحه، تحسّس جسده، جروح وندوب السجن والتعذيب، شُفِيَ منها وتلاشت آثارها، لكنّ ندوب روحه وانهزامها، مازالت تحفر عميقاً في نفسه. إنّه الآن مخلوقٌ جديدٌ، لا يدري كيف سيكونه. استدان مبلغاً من المال ليدفعه للمهرّبين تكاليفَ رحلةٍ غير مضمونة النتائج. فالبقاء والرحيل، يحملان خطر المقامرة بالحياة.
حان موعد الرحيل. على شاطئٍ آخرَ، تجمّع المنكسرون مثله، متلهّفون للصعود إلى مركبٍ يتململ في الماء. قفز أحمد إلى المركب، وأمّن جلسةً خالها مريحةً، لكنّ تزاحم الفارّين من الجحيم، كان أكبر وأكثر من طاقة المركب، فانكمش على نفسه قليلاً. فهدوء البحر يُغري بالإقلاع. أمّن لرأسه حيّزاً ضيّقاً، علّه يريحه من عصف الأفكار المتلاطمة في داخله. جهد ليُبقي ذاكرته مقفلةً، وسوف يؤسّس لذاكرةٍ ناصعةٍ. مساءً غيّر البحر مزاجه وبدّل زرقته بلونٍ رصاصيٍّ، يذكّر بحرائق الحروب. الريح وتلاطم الأمواج، قذف بالعديد من الفارّين إلى البحر، علا صراخٌ يتجاوز تلاطم الأمواج، من ناحيته سمع أحمد صوتاً يستغيث: ساعدني الله يخلّيك، صوت رجلٍ يقاوم الموج، رافعاً يده ملوّحاً بها.
تذكّر أحمد صراخه طالباً الرحمة من سجّانه، خلال حفلات التعذيب اليوميّة، فقد ذاق مرارة الخذلان، سارع وأمسك بيدٍ طرف المركب، ومدّ يده الأُخرى لمساعدة الرجل المستغيث والقريب منه. تمكّن من الإمساك بيده وجذبه نحو حافّة المركب، نظر في وجهه، جفل أحمد وهو يقبض على يد الرجل، بدا وكأنّه بات متردّداً.. الموج وأحمد يتنازعان على الرجل. أخيراً كانت الغلبة لأحمد،
إذ استطاع سحب الرجل.
جلس الرجلان قبالة بعضهما يتبادلان الصمت والوجوم. الرجل يستحضر صورة منقذه، أثناء تعذيبه له، يومها لم يعرفِ الرحمة، بل كان صراخه يستثير ساديّته، ويتمادى في التفنّن بتعذيبه وإذلاله. والآن الضحيّة تنقذ الجلاّد من الموج المتلاطم. القدر ساخرٌ ومُربكٌ.
هل أعتذر له الآن؟ فكّر الرجل. وماذا يفيد الاعتذار؟ وأيّ الكلمات تليق بهذا الموقف؟ لم تسعفه الكلمات، فقامت الدموع بالمَهَمَّة. بقي أحمد صامتاً، بدا وكأنّ مشاعر الغفران قد غادرته. تلاشى البحر وتلاشى كلّ شيءٍ حولهما. وبقي الجلاّد والضحيّة رهائن ذاكرةٍ معتمةٍ، سكنت دهاليز أقبية التعذيب.
حين وصلت مراكب النجدة، حرص الجلاّد على البقاء قريباً من أحمد، وكأنّما يسأله عن كفارةٍ يقدّمها له، وأحمد لا يبالي به. سنوات عمره الجميلة، تبعثرت في عتمةٍ حالكةٍ. ثم خرج من سجنه، ليجد أنّه خسر حبيبته، التي طال انتظارها له، ثم تزوّجت وأنجبت. حشر البوليس الفارّين، في ما يشبه الأقفاص، حال هبوطهم على اليابسة. والجلاّد يلازم ضحيّته، وصار ظلّها كيفما تحرّكت.. والضحيّة تحافظ على وجومها الغامض، وكلاهما ابتلعا لسانَيْهما.
انقضى يومان على وجود اللاّجئين في أقفاصهم، قبل أن تتوقّف السيّارات المحمّلة بالطعام. وبدأ البوليس يُلقي بعلب الطعام من فوق سور القفص.. الجلاّد يُحضر علبتَيْ طعامٍ، يضع واحدةً أمام أحمد. وفكّر في نفسه: أهذا هو النعيم الذي كابدنا للوصول إليه؟ يُلقون لنا الطعام، وكأنّنا كلابٌ ضالّةٌ! فلْنُعامَلْ على الأقلّ مثل كلابهم المحترمة. وأحمد تذكّر كيف كان هذا الجلاّد الماثل أمامه، يقدّم له الطعام، يضعه على باب الزنزانة، ثمّ ينكزه ببسطاره إلى داخلها قائلاً: اتسمّم طعامك، خسارة فيك الأكل.
مرّت أسابيعُ ببطءٍ يطحن الروح، والرجلان يتقاسمان الذلّ والإحباط، ولا ينطقان بكلمةٍ. أخيراً تمّ فرز اللاّجئين وتوزيعهم على دور الإيواء. لن يكونا معاً بعد الآن، وحين أذنت لحظة الفراق تبادلا النظرات المباشرة لأوّل مرّةٍ. تعانقا ثم بكيا.. وقد ابتلعا لسانَيْهما.